شكل الإعلام على مدى عقود طويلة أداة رئيسة من أدوات إدارة الحروب والصراعات سواء كوسيلة من وسائل الحشد والتجنيد وبث روح البطولة والتحفيز في جنود وشعب البلد الذي ينتمي إليه، أو كوسيلة للحرب النفسيه وتزييف الحقائق وإضعاف الروح المعنوية لجنود وشعب البلد العدو.

وزادت أهمية الدور الذي يلعبه الإعلام بصورة كبيرة بعد انتشار الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبح الأداة الأكثر أهمية ضمن ما يعرف بحروب الجيل الخامس. بطبيعة الحال لم تكن الحرب الروسية- الأوكرانية استثناء من هذا التطور، بل كانت تجسيداً حياً لكيفية استغلال وتوظيف الإعلام كوسيلة رئيسة من وسائل إدارة الحرب والصراع بين الجانبين الروسي والغربي (الداعم لأوكرانيا) حيث تعامل هذا الأخير، أي الإعلام الغربي مع الحرب باعتبارها فرصة سياسية، يمكن توظيفها في التحريض ضد روسيا.

وفي هذا السياق نشرت العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية والمحطات التلفزيونية الغربية مقابلات وتحليلات ومقالات رأي للعديد من الكتاب، ركزت أغلبها على تشوية صورة روسيا، والتشكيك في سياساتها الخارجية وأسباب ودوافع حربها على أوكرانيا.، وبدت شبكات إعلامية ضخمة مثل (سي. إن. إن) الإخبارية، و«فوكس نيوز»، و«نيويورك تايمز»، وواشنطن بوست، وغيرها وكأنها تقود حملة منظمة للنيل من روسيا وشحن الرأي العام العالمي ضدها بما يتجاوز الهدف الخاص بدفعها لوقف الحرب في أوكرانيا أو حتى التعاطف مع أوكرانيا وشعبها في مواجهة ما تصفه بالعدوان الروسي الذي تتعرض له.

وهذا يمكن تفهمه في ضوء السياسة الأميركية خاصة، والغربية عامة، والتي تستهدف إضعاف مكانة روسيا الدولية وإخراجها من دائرة التنافس على قيادة النظام الدولي القائم والمستقبلي، ولاسيما بعدما أظهرت تحدياً لواشنطن والغرب في أكثر من مشهد عالمي مؤثر.

وبالرغم من مزاعم انتهاج الإعلام الغربي لمعايير النزاهة والموضوعية والحيادية، فإن تغطيته لهذه الحرب أظهرت انحيازاً واضحاً في التعامل مع مجرياتها، فكل ما تم ويتم بثه على مدار الساعة يصب في اتجاه واحد وهو الرأي الذي يهاجم روسيا ويحملها المسؤولية من أجل شحن الرأي العام العالمي ضدها، كما تميز هذا الإعلام بالانتقائية في نشر ما يخدم توجهات القائمين عليه، واستبعاد أي آراء تحاول عرض الأمر من وجهة النظر الروسية من حيث أسباب ودوافع ومبررات هذه الحرب والتي يتحمل الغرب بالتأكيد جزءاً من مسؤولية إشعالها من خلال عدم النظر بجدية في تهدئة مخاوف روسيا من تمدد الناتو شرقاً.

ولم يكتفِ الغرب بذلك، بل عمل على تكميم وسائل الإعلام الروسية من خلال حظر القنوات التي تعبر عن وجهة نظر موسكو مثل «روسيا اليوم» و«سبوتنك»، بل وقامت شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي مثل «جوجل» و«فيسبوك» وغيرها بمنع وسائل الإعلام الروسية التي تمولها الدولة من استخدام تقنيتها الإعلانية لجمع إيرادات على مواقعها وتطبيقاتها، في حين سمحت هذه الشركات بنشر محتوى غير موثوق بثته بعض الجهات الإعلامية في أوكرانيا والغرب بما في ذلك فيديوهات وأفلام وتقارير مزيفة حول حالات الذعر التي تنتاب المدنيين عند إطلاق صافرات الإنذار أو تعرض لصور أسرى جنود روس أو صور لآليات روسية مدمرة تبين لاحقاً أنها جميعها مزيفة وغير حقيقية وذلك لتحقيق الهدف من هذه الحملة الإعلامية.

في المقابل، يمارس الإعلام الروسي الدور ذاته، من خلال تصوير الحرب المستعرة في أوكرانيا بأنها «عملية عسكرية خاصة» وليست حرباً، واتهام الغرب وتحميله المسؤولية عن هذه العملية الروسية التي تصفها وسائل الإعلام الروسية بأنها ضرورية لوقف توسع «الناتو» شرقاً وتقليل التهديد الأمني للحلف، وإظهار جوانب التفوق الروسي في الحرب مع التغطية على خسائر موسكو الكبيرة فيها.

ووصل الأمر إلى حد قيام السلطات الروسية بالتحذير من حظر أي وسيلة إعلام روسية مستقلة لا تغطي الحرب بالطريقة التي تريدها موسكو وسلطاتها العسكرية. كما أعلنت موسكو أنّها فرضت «قيوداً على الوصول» إلى «فيسبوك» في روسيا، وذلك رداً على القيود التي فرضتها الشركة على المحتوى الروسي. لقد أظهر تعامل الإعلام الغربي والروسي على السواء طبيعة الدور الذي يمكن أن يقوم بها الإعلام في إدارة الصراعات السياسية بين الدول، وأكد بأنه يمكن أن يكون سلاحاً مدمراً للصورة الذهنية، إذا لم يكن للدولة رصيد من شبكة العلاقات العامة مع الدوائر الإعلامية في العالم.

كما أكدت هذه الحرب من جديد حقيقة أن الإعلام بات سلاحاً فعالاً يمكن توظيفه لقلب موازين القوى، وأنه أصبح أحد أهم أدوات الاشتباك الجديد بين الدول، ليتجاوز بكثير دوره التقليدي باعتباره وسيلة لنشر الأخبار أو تسليط الضوء على قضية إنسانية أو أمنية فقط، وإنما هو رأس الحربة في إدارة الحروب والأزمات السياسية بين الدول. كما كشفت الحرب غياب المصداقية لصالح التهويل والإثارة.

ففي الحروب والصراعات لا تلتزم أغلب وسائل الإعلام، وحتى التي توصف أحياناً ب «المحايدة» بالموضوعية، وتقع في دائرة فخ «الكذب الإعلامي» وهذا يكون مقصوداً في أغلب الأحوال، لأن الإدارة الإعلامية تكون «مسيسة» وليس أدل على ذلك من الطريقة التي تعاملت بها وسائل الإعلام الغربية والروسية والتي اعتمدت في كثير من الأحيان على مصادر «مجهولة» في نشر العديد من تقاريرها، متجاوزة في ذلك قواعد وأصول العمل الإعلامي، التي تنحاز دوماً للحقيقة على حساب أي اعتبارات أخرى.

لقد بات الإعلام في عصر الأزمات أهم أدوات إدارة الحروب والخلافات السياسية بين الدول، وتهديد أمنها القومي، لهذا من الضروري أن يلتفت القائمون على الإعلام إلى هذه الحقيقة من خلال الإعلام الخارجي، وبناء كوادر متخصصة فيه تستطيع مخاطبة الخارج والتواصل مع الرأي العام الدولي والتأثير فيه.

*إعلامي وكاتب إماراتي.